الأربعاء، 12 أغسطس 2015

أيملي .. الفتاة التي أبتلعها الجسر


دخلت الجسر قبل أكثر من مئة عام ولم تفارقه حتى يومنا هذا ..
لكل منا خط حياة ، أفتح كفك وستراه ، أنه ذلك الخط الذي يبدأ من فوق إبهامك ويمتد على شكل قوس وصولا إلى معصمك ، أنظر إليه جيدا ، دقق وتمعن فيه .. هل هو مكتمل ومحفور جيدا في باطن كفك أم هو غير واضح المعالم وفيه تقطع وتهتك .. لا تجزع! .. هو لا يدل على طول عمرك ، بمعنى أن طوله أو قصره أو شكله لا علاقة له بعدد السنين التي ستعيشها على هذه الأرض قبل أن يطويك الثرى وتصبح من الغابرين ، لكن له علاقة بطبيعة حياتك ، صحتك ونشاطك ورفاهيتك والتغيرات والمحن التي ستعرفها على مر السنين .
الخطوط الرئيسية لكف الانسان .. هناك خطوط اخرى كثيرة ..
خطوط الكف أوضح وأجمل وأكمل في أيدي الأغنياء منها في يد الفقراء .. لماذا ؟ .. ببساطة لأن الأغنياء لا يعملون بأيدهم كثيرا ، لهذا تكون كفوفهم واضحة المعالم ، طرية وناعمة كالحرير . أما أيدي الفقراء فخشنة ، يابسة ، محيت ملامحها من كثرة الاستعمال ! .. كأنها انعكاس لواقع باهت وبائس .
طبعا قد يقول قائل بأن هذا الكلام لا أساس له من الصحة ، مجرد خزعبلات ، لكن ثق عزيزي القارئ بأنه لا يخلو من حقيقة ، أنه كالقول بأن "الفقراء لا يدخلون الجنة" ، فليس المقصود أن الله يمنع الفقراء من دخول الجنة كونهم فقراء ، لكن العوز يجعل الفقير كثير الشكوى والتذمر ، والله لا يحب سوى الشاكرين الحامدين لنعمه . والحاجة قد تدفع الفقير لاقتراف الذنوب والموبقات ، وهذا يفسر لنا لماذا أغلب المدن والأحياء الفقيرة حول العالم تكون موبوءة بالسرقة والدعارة والمخدرات ، وهي أمور لا تقود إلى الجنة طبعا ، كما أن الفقير لا يملك مالا مثل الغني ليذهب في آخر عمره إلى الحج ويتصدق على الفقراء أو يبني مسجدا ثم يموت بعهدها ليجد أمامه قصرا حاضرا في الجنة ، الفقراء في الواقع ليس لديهم مال لشراء قصور لا على الأرض ولا في السماء .. بالكاد لديهم مال لشراء قبر ! .
لكن لحظة .. ما داعي كل هذه المقدمة الطويلة العريضة عن خط الحياة والغنى والفقر ؟ ..
في الحقيقية هي بسبب أيملي ..
عفوا من هي أميلي ؟ ..
ماري عاشت في هذه المدينة الجميلة .. ستو ..
إنها فتاة جميلة وثرية عاشت في القرن التاسع عشر وأثارت غيظي بسبب غبائها ، كل ما كان عليها أن تفعله هو أن تنظر وتتمعن جيدا في خطوط كفها ، كانت سترى الخطة المرسومة لحياتها واضحة لا لبس فيها ، وهي أن تتزوج شابا ثريا مثلها ، وأن تنجب أطفالا أصحاء ، وتعيش في سعادة ورفاهية لما تبقى من عمرها في منزل فخم كبير وهي محاطة بالخدم والحشم .
لكنها لم تفعل ذلك . كانت للأسف من ذلك النوع من البشر الذين يعشقون الشقاء ، اختارت أن تعشق شابا فقيرا بالكاد يملك قوت بطنه ، أسمه دونالد ، يعيش في واحدة من تلك الأحياء التي لا يذهب سكانها إلى الجنة ! .
كان حبهما من النوع الناري ، لا أدري إن كنت جربت هذا النوع من الحب عزيزي القارئ ، لكن دعني أخبرك كيف يكون ، أنه كشعلة متأججة من اللهب ، أنت تعلم جيدا بأنها ستحرقك ، ومع هذا تضع يدك فيها طائعا صاغرا متلذذا بآلامك ومستأنسا بآهاتك .. باختصار هو أجمل عذاب يمكن أن تجربه في حياتك ، وهو أيضا أكبر حماقة يمكن أن تقترفها في حياتك ! .. هو كمخدر الأسنان ، يزول أثره سريعا ، خصوصا إذا ما انتهى بالزواج ، عندها تختفي اللذة ولا تبقى سوى الحروق .  
على العموم ، دعونا نعود لأيملي ، فهذه الفتاة الناكرة للجميل كانت كثيرة التذمر من أهلها ، أبوها وأمها كانا يريدان لها الأفضل وهي تشتمهم وتلعنهم لأنهما يرفضان أن ترتبط بحبيبها الفقير . منعاها من رؤيته فإذا بها تجلبه إلى منزلهما بكل وقاحة ليطلب يدها منهما رسميا .
أعتقد المشهد التالي من قصتنا معروف لأغلبكم ..
ايملي احبت شابا فقيرا ..
شاب فقير معدم جاء لطلب يد شابة جميلة من عائلة ثرية ومرموقة ، النتيجة هي أن الخدم حملوه على الأكتاف ثم رموه خارج المنزل كالكلب الأجرب ، ذلك بعد أن هدده والد الفتاة بأنه في المرة التالية التي سيوسخ فيها أرضية منزلهم الرخامية البراقة بحذائه القذر المتهرئ فأنه سينتهي بطلقة في رأسه .
لا أفهم لماذا بعض الناس يضعون أنفسهم في مواقف محرجة كهذه ! .. ولماذا لا يتعلمون من تجاربهم السيئة ، فبدل أن يتعض دونالد من "العلقة" التي أكلها في منزل والد حبيبته ، بدل أن يترك الفتاة ويمضي لسبيله ، راح يحرضها على الهرب معه . ولم تبدي هي أي اعتراض أو امتعاض ، لا بالعكس .. كانت سعيدة مغتبطة بهروبها من الغنى والثراء إلى الفقر والشقاء ! .
وفي ليلة مدلهمة غاب عنها القمر ، بعد أن نام أهلها ، تسللت أميلي من منزلها خلسة وراحت تعدو نحو المكان الذي واعدت فيه حبيبها لكي يهربا معا . وكانا قد تواعدا على الالتقاء عند جسر غولد بروك (جدول الذهب) الخشبي العتيق الذي يبدو من بعيد كأنه دب بني عملاق فاغر فاه ليبتلع كل من يعدو إلى داخله .
ركضت أميلي نحو حبيبها ، ومع كل خطوة كان قلبها يقفز فرحا ، أظنك جربت ذلك الشعور عزيزي القارئ ، أعني الترقب والاشتياق الشديد لشيء أو حدث ما ... أنه شعور يجعل أعضاء بدنك كلها تنتظم في أهزوجة راقصة ! ..
وصلت أميلي للجسر أخيرا ، تلفتت ذات اليمين وذات الشمال ، لم يكن من أثر لدونالد ! ..
انتظرت طويلا .. ليس معها سوى دمعتها وصرير جنادب الليل ..
انتظرت .. وانتظرت ..
اميلي انتظرت عند هذا الجسر طويلا ..
لكن دونالد لم يأتي أبدا ، لا أحد يعلم ماذا جرى له وما الذي منعه من الحضور ، يقال بأن والد الفتاة علم بخطة هروب أبنته فأرسل من قام بقتل حبيبها ، وبغض النظر عن صحة هذه الرواية فأن أحدا لم يرى الشاب العاشق بعد تلك الليلة المشئومة .
أما أيملي .. فهناك روايات عدة لما جرى لها ..
يقال بأنها وبعد أن طال أنتظرها على الجسر وتسلل اليأس إلى قلبها قررت العودة إلى منزلها ، عادت وهي تجر أذيال الخيبة وتنتحب بحرقة من غدر الحبيب ، لكنها لم تبعد كثيرا عن الجسر ، لم تمشي سوى لبضعة خطوات حتى ظهرت عربة مسرعة تجرها خيول جامحة ، الحوذي العجوز لم يرى أيملي في الظلام الدامس ، وأيملي الغارقة في أحزانها وخيبتها لم تنتبه أصلا لقدوم العربة ، وسرعان ما انتهى ذلك المشهد بأيملي تحت حوافر الخيل ، ماتت في الحال .
هناك رواية أخرى تقول بأن أيملي من شدة إحباطها انتحرت بشنق نفسها على إحدى دعامات الجسر .
وهناك أيضا من يزعم بأن أيملي كانت حاملا من حبيبها ، وبأنها عادت إلى منزلها حين لم يأتِ إليها في تلك الليلة . بعد فترة ظهرت عليها بوادر وعلامات الحمل فأراد والدها أن يزوجها برجل لا تحبه من أجل أن يغطي على الفضيحة ، لكنها طلبت منه أن يمهلها حتى تفرغ من حملها ، وقد أنجبت توأما جميلا ، وفي اليوم التالي تسللت إلى الجسر الخشبي وانتحرت هناك .
على العموم ، أيا ما كانت الرواية الصحيحة فأن أيملي ماتت فوق ذلك الجسر الكئيب وتحولت قصتها بالتدريج إلى حكاية حزينة مرعبة يقصها الناس لأطفالهم في ليالي الشتاء الباردة ، وأقول مرعبة لأن الجسر بدأ يشهد أحداثا وأمورا غريبة منذ ذلك الحين .
زعموا رؤية فتاة ترتدي ثوبا ابيض تجري ..
بعض الذي مروا بالجسر ليلا زعموا بأنهم سمعوا صوت فتاة تنتحب ، لكن  حين فتشوا الجسر لم يعثروا على أحد . هناك أيضا من زعموا بأنهم شاهدوا فتاة ترتدي ثوب العرس الأبيض تجري فوق الجسر ثم تختفي في الظلمة . آخرون قالوا بأنهم رأوا فتاة مشنوقة فوق دعامة الجسر .
هناك أيضا مزاعم حول تعرض بعض زوار الجسر لهجوم خفي حيث وجودوا جروح ناجمة عن خربشة أظافر على أجسادهم ، وحتى على سياراتهم ، ويقال بأن أكثر من يتعرضون لهذه الحوادث هم الرجال .
ولا تقتصر قصص شبح الجسر على الروايات الشفهية ، فهناك أيضا صور منشورة على بعض المواقع يظهر فيها ما يشبه وجه أو جسم فتاة وسط الظلام الحالك الذي يلف الجسر .
طبعا معظم الناس يؤمنون بأن من يقف وراء تلك الأمور الغريبة والغامضة هو شبح أميلي البائس ، يقال بأنها مازالت تنتظر حبيبها هناك على الجسر ، تتلفت بيأس بحثا عنه ، وتشعر بالحنق والغضب لعدم حضوره فتنفس عن غضبها بمهاجمة المارة وزوار الجسر ، خصوصا الرجل ، فالغدر وقلة الوفاء شيمة يشتركون فيها جميعا – حسب وجهة نظر بعض النساء - .
أما لماذا سكنت روح أيملي الجسر .. ولماذا لا تغادر إلى العالم الآخر ؟ .. فبحسب معتقدات بعض الشعوب تتحول الأرواح المعذبة والمغدورة إلى أشباح أو عفاريت بعد موتها ، وكلما كانت ميتة الشخص مفجعة ومؤلمة أكثر كلما زاد احتمال تحوله لشبح بعد موته .
هل هناك حقا شبح يسكن هذا الجسر ؟ ..
وهناك من يرى بأن الشبح هو قرين الميت ، والقرين هو من الجن ، يرافق الإنسان في حياته وقد يبقى بعد مماته ، وغالبا ما يبقى هائما على وجهه في البقعة التي مات فيها قرينه .
رأي آخر يزعم بأن الجن والأرواح الشريرة تستغل خوف الناس من بعض الأماكن التي تدور حولها القصص المرعبة فتعمد إلى العبث بعقولهم عن طريق تصورها في هيئة أشباح .
أما العلماء فيقولون بأن الأشباح هي مجرد تجلي لمخاوف الإنسان ، أي أنها هلوسات وتهيؤات ناجمة عن خوف شديد ، أظن بأننا كلنا جربنا هذا الشعور بعدم الراحة بعد رؤية فيلم رعب ، حيث يصبح أقل صوت مثيرا للريبة وباعثا على القلق . ورأي العلماء هذا هو الأقرب لتفسير ما يحدث عند جسر أيملي ، فالمصادر التاريخية في مدينة ستو الأمريكية ، حيث عاش كل من أيملي ودونالد ، تغفل تماما عن أي ذكر لهما ، ولا توجد أي أشارة تدل على انتحار أو موت فتاة شابة عند غولد بروك . على الأرجح فأن قصة أيملي لم تظهر للوجود إلا في ستينات القرن المنصرم ، يقال بأنها قصة اختلقتها إحدى طالبات الثانوية ، وفي لقاء مع هذه الفتاة زعمت بأنها توصلت للقصة بعد أن أجرت هي وزميلاتها جلسة تحضير أرواح عن طريق لوح الويجا فوق الجسر ، وبعد تلك الجلسة مباشرة بدأت المشاكل والأحداث الغريبة .
على العموم أيا ما كانت الحقيقة .. فأن الجسر الذي أبتلع روح أيملي صار يعرف بأسمها ، أي جسر أيملي ، وأصبح من الأماكن الأكثر جذبا للسياح في مدينة ستو الأمريكية ، كل عام يزوره الآلاف من عشاق الأدرينالين . ويقال بأن الوقت الأنسب لمقابلة الشبح هو بين الساعة التاسعة مساءا والثالثة فجرا .

ختاما ..

اعتذر لأحبابي القراء عن أسلوبي المتهكم في هذا المقال ، أنا لم أقصد التندر على الفقراء ولا السخرية من الأغنياء . الفقراء بالنهاية لم يختاروا فقرهم ، وليس ذنب الأغنياء وجود الفقراء . الأمر بالنهاية ليس طبقيا بقدر ما هو مالي ، أعني أن الفقير سيحاول التصرف كغني لو صادفه الثراء ، والغني سيتصرف حتما كفقير لو ضاع ماله . ما أقوله أنا هنا هو أن الإنسان يجب أن يكون عمليا في نظرته لواقعه ، هب أن دونالد تمكن فعلا من الزواج بأيملي ، كيف كان سيوفر متطلباتها كفتاة غنية لم تعرف الفقر والعوز أبدا ، وقد قال أحدهم قديما : " عندما يطرق الفقر الباب يهرب الحب من الشباك " ... نعم قد يعشق الفقير فتاة ثرية ، وتبادله هي الحب والغرام ، لا بأس في ذلك .. ما دام مقتصرا على أحاديث الفيسبوك وهمسات الجوال ، أما الهرب معا ، والتواعد ليلا عند جسر مظلم ، فتلك حماقة كبرى تنتهي عادة بقصة مرعبة كهذه التي سردناها على حضراتكم قبل قليل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق